حكاية
البرد مثل سياط تلفح وجهه ، التفح برقبة الجلباب ليقيه هذا القارس..يشق الشارع فى قلب السوق المتعطن المزدحم...فجأة.. يلهث مسرعاوانفاسه تسبقه بلا رحمة..ذلك الطفل الذى لم ينساه يقترب منه ، يحتمى ويلتصق بطرف جلبابه..وكان ضخم الجثه كريه التقاسيم قد وصل وراءه واهنا لاهثا:
- هيه ماذا تريد من هذا الطفل؟؟
- هل تعرفه؟
- ربما..لماذا تركض وراءه؟؟
- لقد سرق من دكانى صندوق تفاح!!
- هذا البائس النحيل سرق صندوقا كاملا؟؟
- كانت معه شرذمة من المتشردين بالامس..
• ضغط الرجل الضخم على كلمة متشردين فى نبرة احتقارية ووقاحة واضحة تعكس وقاحة السوق ومن فيه!! استفزه الموقف..قارن للحظة بين جسد نحيل ، حافى وبين متكرش كريه...احس بفوضى من الاحساسات بداخله..وزادت هذه الفوضى حدة عندما التصق الطفل اكثر بجلبابه:
- كاذب ..انه كاذب يا سيدى..ا ني مظلوم ..صدقنى..
• هز المتكرش رأسه ساتخرا:
- ايها الماكـــــــر!!!
- كم ثمن صندوقك يا..........
- يبدو انك تعرفه فعلا..لايهم..الثمن ثلاثة دينارات..
• اخرج المبلغ من جيب جلبابه واعطاه للرجل الكريه الذى اختطفه بسرعة وقفل راجعا وهو يلتفت فى حيرة بالغة..بينما قرفص قبالة الطفل الذى شرع يبكى:
- لماذا تسرق؟ هل انت بحاجة الى المال؟؟
- لم اسرق ياسيدى انت لاتصدقنى مثله، ان الذى سرق الصندوق طفل آخر ..لقد هربت مذعورا بالامس عندما رايت هذا الرجل المرعب يلهث وراءه فظن انى معه؟؟انهم..انهم فى هذا السوق يرتابون فى كل فقير..كنت مذعورا ..صدقنى يا سيدى..
• ذهب به بكاء الطفل بعيدا..اعتصرت الذاكرة لحظات من طفولة تعسة.. عندما جاء الى ابيه احد الجيران وقال له انه قد سرق من منزله بعض الاشياء اثناء غيابه هو وزوجته خارج المنزل بشهادة والدة الزوجة السيده الوقورة والمصلية والطيبه التى قالت انها رأته من خلال شعره الاشقر وهو يقفز من السور هاربا نحو الشارع الخلفى ..كانت وقورة وكاذبة!!! ولكن من اين لطفل يتيم الام ان يجد من يصدقه ، وجره صاحب المنزل الغليظ الى مركز البوليس ..وهناك ضربه الجميع..المحقق والحارس وعامل المقهى والغفير حتى جارهمصاحب المنزل( صدقنى يا سيدى لم اسرق من منزلك ولم ادخله ) بينما يضربه الجار مرة اخرى طالبا منه الاعتراف..وفى ليلة كاملة فى مكتب الشاويش والسياط تلهب رأسه تحت صورة( الملك )..كانوا يركلونه باحذيتهم الحقيرة والقميئة ، عندئذ تذكر حكاية ابيه الذى ركله الطليان وهو فى نفس المكان!! احذيتهم كانت تشبه..بل تكاد تكون هي رأس تاجر التفاح المتكرش الكريه..أفاق من شروده على صوت الطفل:
- هل تبكى يا سيدى؟؟؟- انا ابكى ..لكن فرحا لانى انقذتك من هذا القمىء..
• التقت عيناه ببريق طفولى حاد يعرفه جيدا ويخبر صدقه ..بريق وحزن!!..انتحى به جانبا:- هل تذكرت حادثا مؤلما..
- وأى الم؟؟
- كانت طفولتى لاتذكر؟؟؟ شقيه
- شقية؟
- نعم..كنت يتيم الام..
- وانا ايضا يا سيدى واعيش مع زوجة ابى..- لكنى الان يتيم عجوز يا طفلى الرائع
- وما الفرق يا سيدى؟- بالامس ليس ثمة فرق.. اما الان فانا يتيم اشيب الشعر( ابتسم)!!
• ابتسم الصغير ايضا فى انتشاء واضح!!- كنت طفلا سىء الطالع.. لااذكر لحظات سعيدة..كانت لدى احلام..وكنت امارسها خلسة عمن هم حولى..وكنت افيق من احلامى على الصفعات الحارقة..كنت سىء الطاع..ولم اجد من ينقذنى..انت محظوظ اذ وجدت من ينقذك..
• انسل الطفل من بين يديه بهدوء ، بينما بقى هو مقرفصا شاردا ، بحث عن الطفل الذى ابتلعه زحام السوق العفن ..وفى ذات اللحظه ومن نفس الباب .. باب السوق..انه هو بعينه الجاحظه المتورمة..لم تغب عنه ملامحه ابدا بسحنته الكريهة..وقسمات وجهه التى لم تغب عن ذاكرته.. نفس الشاويش..نفس الجثة والملامح..نفس القسمات..نفس النظرة القاسية والوجه المتجهم..نفس المشية والخطوات، نفس اليد الضخمة..شرع يتحسس وجهه..انه هو..لم يتغير فيه شىء غير انه يرتدى بدلة ضابط على جسد محنط..عندئذ ..وفجأة ، تذكر الطفل..فركض مسرعا..باحثا عنه...
كتبت في اثينا – اليونان
هناك 22 تعليقًا:
اليتم ، التشرد ، صفعات متوالية ، قهر وحزن مستديم
دائما هي ذكرياتنا المطحونة بالاسى .. و مازالت الطفولة
الجديدة تحمل ذكريات اليتم والتشرد والضياع
تاربخ يكرر نفسه بتلقائية مجّة
الصديق الطيب محمد السنوسي
قص مؤثر جدا به الواقعية حاضرة
دمت مبدعا
ازدهار
ـــــــــــــــــــــ
زهرة الملتقى وسيدة الحرف..شكرا لك من قلبي..هي ذاكرة تحيط بامكنتنا ونتلقفها لاننا ضمير الناس...تحية لقلبك الجميل ايتها المبدعة.
تهمته الفقر...
جريمته اليتم...
مكافأته التشرد والضياع...
جزاؤه عقاب على مالم يفعل ومالن يفعل...
ألا يكفي بعض الفقراء فقرهم...لنزيدهم ذلا وخوفا وضعة ومهانة....
لكن..
من أين لمن تحجر قلبه بعض نبض يحي موات شعوره...
أشتاذنا الفاضل:
برغم كل الألم يطل جمال الحرف ..
تحياتي وتقديري
فعلا للشتاء دوما ذاكرة أقوى من باقي الفصول ربما كونه الاعنف و ربما كون الفقير يذوق فيه عذابات أكبر
الاستاذ محمد السنوسي
دمت بكل خير
ظلال عدنان شكرا لمرورك الكريم واحييك على تحليلك الجميل
مُعاذ...للشتاءات \اكرة دافئة ومُبهجة..شكرا لقلبك الجميل
مُعاذ...للشتاءات ذاكرة دافئة ومُبهجة..شكرا لقلبك الجميل
أستاذنا العزيز
ترتبط الطفولة البائسة بالظلم دوما ...ربما ليس من قيبل الصدفة
ولكن لسهولة إتهام من لا سند له للدفاع عنه
رائعة كما تعودنا منك أستاذنا
دمت بكل ود
رائدة زقوت
مدونة ام ليث..رائدة زقوت
http://zraeda.maktoobblog.com
ــــــــــــــــــ
شكرا لوجود قلمك بيننا ..
لا يسعني إلا التصفيق والتصفيق احتراما ..
تحياتي لعقل يخاطب العقل والقلب بريشة رسام .. ليحفر في انطباعاتنا تلك الرسومات والصور الرائعة ..
فتحفر في ذاكرة الشتاء والصيف أيضا ..
تحياتي ..
شكرا ام ليث..نعم هي الطفولة..والكاتب هو ضمير الذين حوله وحواليه..شكرا لمرورك هنا
ـــــــــــــــــــ
شكرا ايمان..كل ماهي ذاكرة تلتصق بالجوانح ونقولها يوما حتى وان لم نكن ابطالها..شكرا لقلبك الجميل .
أصعب شتاء..
هو شتاء العمر الذي لا ربيع بعده..
حين يهجم علينا .. و نحن معتقلون خلف الصوف و الياقات العالية.. و القلانس.. محتجزون خلف النوافذ المغلقة قسراً .. بحجة الحماية من البرد..
و عاجزين عن حماية ذاكرتنا من برد ذكريات بقسوة الجليد..!
أوَ تدري..
لقد أحببت ذاك العجوز اليتيم أشيب الشعر.. سيء الطالع !!
فهو لا يزال طفلا ً.. بجلباب .. و لو أعمل الزمان على وجهه خطوطاً..
هكذا هي الشتاءات.. فيها ماء , و طين , و شلالات وسيول ,
ورياح و غيم , و بعض شمس ..
سيدي الغزالي ..
صاحب أجمل الأقلام و أرهفها ..
سردك جميل .. جميل كمرج أخضر .. ممتد إلى حدود الأفق..
أشكرك..
ميسون المدهون..الاردن
كان السوق يا ميسون في ذلك اليوم الشتاءي اشبه بمغارة الذئاب المتوثبة..وكانت القطط ايضا هناك تتلصص بعيون خضراء زمردية متلألئة كلون اللازورد؟؟..ولذلك كانت هي الاخرى تنتظر غنائمها لتخربش وجوه الاشقياء..شكرا لكل ما قلته هنا..شكرا لقلبك الجميل
محمود أبوحامد | حرر في 2004-10-25 08:06:42
فكرة التداخل بين الذكريات وحدث واقعي مشابه لها فكرة قديمة ، حاول الكاتب تجديدها عبر تقاطع ذكريات الكاتب / الشخصية مع احداث تجري لطفل يصادفه متهما بالسرقة داخل السوق .. القصة استطاعت نقل التداخلات الشعوري للقاريء لكن ايقاعها لم يتصاعد مع تصاعد الحدث ، واللغة كانت ضعيفة في أغلب الاحيان ولم تفرق بين حوار الكبير والصغير .. وكان يشوبها اطلاق الاحكام.. اي دع القصة تقول من الكاذب ومن الصادق ، ومن المظلوم ومن البريء ..بكل مودة
الى الفاضل ..ابوحامد | ليبيا حرر في 2004-10-26 08:06:42
اشكرك على مداخلتك وقراءتك والقصة كتبت عام 1978م ولم اغير فيها للامانة حرفا واحدا..لكن هذا لابمنع الاعتراف لك بأن قراءتك جيدة خاصة فيما يتعلق بحوار الطفل..اشكر لك اطلالتك الكريمة..وسعدت كثيرا بوجودك..حييت..
| السلمانى الغربي حرر في 2004-10-28 08:06:42
نص جميل وموفق واستطاع الكاتب ان يوصل الى عقولنا فكرته بسهولة وسلاسة وعباراته متماسكة كالبنيان المرصوص
| ليبيا حرر في 2004-10-31 08:06:42
اشكرك على مداخلتك وقراءتك وارجو ان اكون على القدر الذى ذكرته، لكنى ارحب بأى ملاحظات لانها بلاشك مفيدة وعمليه بالنسبة للكاتب الذى يسعى الى تطوير ادواته..اكرر امتنانى
| مسه حرر في 2004-10-31 08:06:42
غريب تعليق المغربي فعندما قرات فقرة (كالبنيان المرصوص) ضحكت كثيرا ..هي قصة أم معركة أيها الناقد العبقري .. أما الحبيب بن الشيخ أجزم أنه محمد السنوسي الغزالي لأانني قد أخبرني أحد الأصدقاء بأنه قرأ هذا النص منذ فترة بعد أن قدمه له الغزالي بشحمه وعظمه وشكرا للناقد المغربي
http://www.arabicstory.net/index.php?p=remarks&tid=5023
الى البلدوزر واللقب المستعار | ليبيا حرر في 2004-10-31 08:06:42
الجزم واليقين والاطلاقية صفات الذين بمرون كالسحاب لانهم لايقولون شيئا فليكن ما يكن الحبيب بن الشيخ !! ولكن ماذا بشأنك ايها البلدوزر الطيب الذى دخلت علينا هذا الدخول العنيف ومع ذلك اشكرك لمجرد التعليق فالامم الاخلاق ما بقيت كما يقول الشاعر..ولى ملاحظه ارجو الا تكون على علم بان لقب البلدوزر هو الذى يطلق على شارون من قبل مريديه فى الليكود تحببا وتدللا وعشقا لانه يذبح ابنائنا فى كل مطلع شمس فياليتك بدلا مما لاحظت على المغربى ان تلاحظ على لقبك..واكرر شكرى لك..
القصة ذات نثر سردي متألق في لغته ومعبر عن غرضه ..
وقد لعب الخيال السردي دوره في إثراء النص القصصي ..
القصة مبدعة جدا جدا ..
http://www.shrooq2.com/vb/showthread.php?t=5746
ــــــــــــــــــــــــــــــ
ثلاثة أجيال .. الصبي .. الرجل ..والده ..
وبؤس واحد دوّن قسوته عميقًا في الروح ..
جميلة أ.محمد ..
http://www.shrooq2.com/vb/showthread.php?t=5746
ليلى.. شكرا لمرورك هنا ايتها الزميلة الرائعة...لك كل الود والتحية
افرح الله قلبك يا افراح ..شكرا لك على مرورك..نعم..قراءتك صحيحة..هى تدوين لثلاثة اجيال..احييك..
إرسال تعليق