الخميس، 21 مايو 2009

ذاكرة الشتاء

حكاية
البرد مثل سياط تلفح وجهه ، التفح برقبة الجلباب ليقيه هذا القارس..يشق الشارع فى قلب السوق المتعطن المزدحم...فجأة.. يلهث مسرعاوانفاسه تسبقه بلا رحمة..ذلك الطفل الذى لم ينساه يقترب منه ، يحتمى ويلتصق بطرف جلبابه..وكان ضخم الجثه كريه التقاسيم قد وصل وراءه واهنا لاهثا:
- هيه ماذا تريد من هذا الطفل؟؟
- هل تعرفه؟
- ربما..لماذا تركض وراءه؟؟
- لقد سرق من دكانى صندوق تفاح!!
- هذا البائس النحيل سرق صندوقا كاملا؟؟
- كانت معه شرذمة من المتشردين بالامس..
• ضغط الرجل الضخم على كلمة متشردين فى نبرة احتقارية ووقاحة واضحة تعكس وقاحة السوق ومن فيه!! استفزه الموقف..قارن للحظة بين جسد نحيل ، حافى وبين متكرش كريه...احس بفوضى من الاحساسات بداخله..وزادت هذه الفوضى حدة عندما التصق الطفل اكثر بجلبابه:
- كاذب ..انه كاذب يا سيدى..ا ني مظلوم ..صدقنى..
• هز المتكرش رأسه ساتخرا:
- ايها الماكـــــــر!!!
- كم ثمن صندوقك يا..........
- يبدو انك تعرفه فعلا..لايهم..الثمن ثلاثة دينارات..
• اخرج المبلغ من جيب جلبابه واعطاه للرجل الكريه الذى اختطفه بسرعة وقفل راجعا وهو يلتفت فى حيرة بالغة..بينما قرفص قبالة الطفل الذى شرع يبكى:
- لماذا تسرق؟ هل انت بحاجة الى المال؟؟
- لم اسرق ياسيدى انت لاتصدقنى مثله، ان الذى سرق الصندوق طفل آخر ..لقد هربت مذعورا بالامس عندما رايت هذا الرجل المرعب يلهث وراءه فظن انى معه؟؟انهم..انهم فى هذا السوق يرتابون فى كل فقير..كنت مذعورا ..صدقنى يا سيدى..
• ذهب به بكاء الطفل بعيدا..اعتصرت الذاكرة لحظات من طفولة تعسة.. عندما جاء الى ابيه احد الجيران وقال له انه قد سرق من منزله بعض الاشياء اثناء غيابه هو وزوجته خارج المنزل بشهادة والدة الزوجة السيده الوقورة والمصلية والطيبه التى قالت انها رأته من خلال شعره الاشقر وهو يقفز من السور هاربا نحو الشارع الخلفى ..كانت وقورة وكاذبة!!! ولكن من اين لطفل يتيم الام ان يجد من يصدقه ، وجره صاحب المنزل الغليظ الى مركز البوليس ..وهناك ضربه الجميع..المحقق والحارس وعامل المقهى والغفير حتى جارهمصاحب المنزل( صدقنى يا سيدى لم اسرق من منزلك ولم ادخله ) بينما يضربه الجار مرة اخرى طالبا منه الاعتراف..وفى ليلة كاملة فى مكتب الشاويش والسياط تلهب رأسه تحت صورة( الملك )..كانوا يركلونه باحذيتهم الحقيرة والقميئة ، عندئذ تذكر حكاية ابيه الذى ركله الطليان وهو فى نفس المكان!! احذيتهم كانت تشبه..بل تكاد تكون هي رأس تاجر التفاح المتكرش الكريه..أفاق من شروده على صوت الطفل:
- هل تبكى يا سيدى؟؟؟- انا ابكى ..لكن فرحا لانى انقذتك من هذا القمىء..
• التقت عيناه ببريق طفولى حاد يعرفه جيدا ويخبر صدقه ..بريق وحزن!!..انتحى به جانبا:- هل تذكرت حادثا مؤلما..
- وأى الم؟؟
- كانت طفولتى لاتذكر؟؟؟ شقيه
- شقية؟
- نعم..كنت يتيم الام..
- وانا ايضا يا سيدى واعيش مع زوجة ابى..- لكنى الان يتيم عجوز يا طفلى الرائع
- وما الفرق يا سيدى؟- بالامس ليس ثمة فرق.. اما الان فانا يتيم اشيب الشعر( ابتسم)!!
• ابتسم الصغير ايضا فى انتشاء واضح!!- كنت طفلا سىء الطالع.. لااذكر لحظات سعيدة..كانت لدى احلام..وكنت امارسها خلسة عمن هم حولى..وكنت افيق من احلامى على الصفعات الحارقة..كنت سىء الطاع..ولم اجد من ينقذنى..انت محظوظ اذ وجدت من ينقذك..
• انسل الطفل من بين يديه بهدوء ، بينما بقى هو مقرفصا شاردا ، بحث عن الطفل الذى ابتلعه زحام السوق العفن ..وفى ذات اللحظه ومن نفس الباب .. باب السوق..انه هو بعينه الجاحظه المتورمة..لم تغب عنه ملامحه ابدا بسحنته الكريهة..وقسمات وجهه التى لم تغب عن ذاكرته.. نفس الشاويش..نفس الجثة والملامح..نفس القسمات..نفس النظرة القاسية والوجه المتجهم..نفس المشية والخطوات، نفس اليد الضخمة..شرع يتحسس وجهه..انه هو..لم يتغير فيه شىء غير انه يرتدى بدلة ضابط على جسد محنط..عندئذ ..وفجأة ، تذكر الطفل..فركض مسرعا..باحثا عنه...
كتبت في اثينا – اليونان