الأربعاء، 9 أبريل 2008

مدائن الثقافة: غريكوس...قصة:محمد مفتاح الزروق

مدائن الثقافة: غريكوس...قصة:محمد مفتاح الزروق

غريكوس...قصة:محمد مفتاح الزروق

غريكوس...قصة:محمد مفتاح الزروق 1 كلما أتى ليزور "غريكوس" , كان يجده جالسا في مكانه, لا يبرحه , و لا يغادره .... مثلما كان يتركه , كان يجده ... جالسا بكبرياء الأبطال , دائما ..... و "غريكوس" يجلس هناك منذ أمد .. وهذا الأمد بعيد ... ضارب في أعماق التاريخ .. لا مقدرة له على تقديره لأقرب عدد صحيح كما عرف في الحساب , حتى والده لا يعرف متى جلس "غريكوس" على هذا الكرسي الحجري الذي لا يقل عنه قدما . الذي يعرفه و يستطيع تأكيده أن " غريكوس " يجلس على الكرسي الذي هو أقرب ما يكون إلى صفة صخرية , قرب العامود الرخامي الطويل الممتد في عنان السماء , و على مقربة من بقية جدار صخري رمم منذ فترة حديثة العهد بمقياس أهل التاريخ , و لكنها ليست حديثة بمقياس أهل البناء و التشييد و الصيانة . عندما تشرق الشمس , كانت بقية الجدار الحجري القديم الحديث كافية لأن تمنحه الظل الذي يحتاجه , خاصة في هجير الصيف . وقبيل العصر إلى أن تغرب الشمس , كان العامود الرخامي يمنح " غريكوس " ظلا على جزء من جسمه , يتغير مع مسير الشمس .. وكان الله في عون " غريكوس " في فترة الظهر من حرها وهجيرها , وفي فترة الشتاء القارص الطويل من برده ومطره .... إن تواتر الحر والبرد , وتوالي مجيئهما وأفولهما أعواما وعقودا وقرونا طوالا ليفتان عضد " غريكوس " و يتركان فيه آثارا بالغة الخطورة . " غريكوس" لا يأكل : فعلى الرغم من جلوسه قرب (كرمتين) و(عريشة), و على الرغم من وجود الكثير من شجيرات (الكليل) و الزعتر و شجرات (الخروب) و البطوم و ( الشماري ) على مقربة منه , فإن أحدا لم يشاهده يوما يمد يده ليأخذ منها شيئا .. حتى حمزة أكثر أصدقائه ودا , كان يتمنى أن يضبطه متلبسا بالسرقة , سرقة ثمرة من ثمرات الأشجار , لكنه لم ير ذلك . بل هو لم ير أيا من يديه الاثنتين تتحركان قيد أنملة . اعتاد "حمزة" أن يذهب إلى " غريكوس " يوميا , يطمئن عليه , يحادثه دون أن ينتظر منه ردا .. في الشتاء ولأنه مشغول في الصباح بمدرسته , كان " حمزة " يزور "غريكوس" في فترة الظهيرة , حيث يكون عاد من مدرسته , ويكون الجو دافئا, فيخرج في تلك الفترة ,عقب تناوله طعام الغداء وبسرعة قياسية . و في فترة الصيف : حيث يطول النهار , كان "حمزة " يقضي فترة ما بعد العصر بصحبته , ويظل معه إلى أن تغيب الشمس , يفضله على كل أقرانه, الذين يهرعون إلى اللعب بالكرة أو الركض خلف بعضهم البعض أو بالتمتع بحلول موسم من مواسم ألعاب الأطفال الوقتية .. والتي لا تبدأ بتاريخ محدد , إنما يبدؤها أحد الأولاد , بعد أن يسأم من سابقتها , ولا تلبث أن تستشري في البلدة كما تستشري النار في الهشيم , فترى الأولاد كلهم يلهون بذات الطريقة التي يلهو بها الآخرون هكذا ... فجأة , دون أن يجعلوك تحس بالمرحلة الانتقالية من هذه إلى تلك . ولو أمعنت التفكير, لتمنيت أن يكون للكبار هذه القدرة الفائقة والسريعة على التكيف مع الواقع , وسرعة الاستجابة لمستجدات الحياة , واتخاذ الرأي الجماعي للمشاركة في العمل الجماعي ,,, ولو عن طريق اللعب .. ولكن هيهات ... " حمزة " الوحيد من الأولاد الذي لا يستهويه عالم الكبار, ولا يتمنى يوما أن يكبر , لا يريد أن يكون كوالده يذهب ويجيء دونما جديد ولا مستجد . ولا كأمه التي لا تغادر عتبة باب البيت إلا نادرا , لتزور جارة لها في مناسبة من المناسبات , تبادلها حديثا لا قبل له به. ولو خيروه لاختار ألا يكون كأبيه أو كأمه بل أن يكون مثل "غريكوس" غامضا شامخا وحيدا, رأى الكثير وفعل الكثير , ولم يقل إلا القليل , الكل يريد أن يسمع منه , ويتوق إلى معرفة ما يحتفظ به في جعبته من أحداث حصلت , وأساطير نسجت .. " غريكوس " الذي عاش طويلا , و كان شاهدا على كثير من الأحداث.. 2 " غريكوس " لا يأكل لأنه بلا رأس ... و قصة رأس " غريكوس " لا يعرفها تحديدا أحد , فعندما سأل حمزة والده قال إن الرأس يوجد في أحد المتاحف بالخارج .. و إن جارهم " فرج " شاهد الرأس عند زيارته لذلك لمتحف أثناء دراسته هناك .. وهو يقسم بأغلظ الأيمان أن الرأس هو رأس "غريكوس" وقد تأكد من ذلك بعد أن قام بقياس أبعاد الرأس بجهاز اسمه (القدمة) مغافلا حراس المتحف , وعندما عاد إلى بلده وجد أن النتوءات والكسور مطابقة تماما .. لهذا فإن هناك من سرق هذا الرأس وباعه لهؤلاء النصارى الذين يهتمون كثيرا بمثل هذه الأشياء .. آخرون قالوا أن "فرج " المشهود له بالكذب لا يعرف أن الرأس لم يغادر البلدة , وأنه موجود داخل متحفها العام .. و يذكر حمزة أن أباه سبق وأخبره أن جده يتذكر في طفولته رأس "غريكوس" ... فخلال فترة الاحتلال الإيطالي للبلاد كان "غريكوس" يحتفظ برأس شامخ أعلى كتفيه , وكانت عيناه بيضاوين .. ويؤكد الكثيرون لجده أن الطليان هم الذين أزاحوا رأسه عن كتفيه .. ولأن جده لا يأبه كثيرا لغريكوس ويعتبره صنما من الأصنام .. فإنه لم يأبه أيضا لاختفاء رأس "غريكوس" ..فإذا كانت كل الأصنام لا تهمه , فهل يهتم لرأس أحدها ؟ و لو حقا أن الطليان هم من أعدموه , فإن هذا هو العمل الجيد الوحيد الذي قام به الطليان وليتهم أزاحوا كل الأصنام التي يأتي بعضهم لعبادتها.. ولكن لماذا أعدم الطليان غريكوس بقطع رأسه ؟ هكذا يتساءل حمزة الصغير أمام والده .. وهل هناك من لا يزال يعبد الأصنام ؟ هل كان غريكوس مع المجاهدين ؟ هل رأى عمر المختار ؟ يطرق والده و كأنما سئم الأسئلة ... و تظل تكبر الأسئلة في مخيلة الصغير, وتكبر معها إجابات مختلفة .. لماذا لا يزال الكثير منهم يزورون الأصنام ؟ أهم يعبدونها ؟ إنه يأتي لزيارة غريكوس كل يوم, لا أحد يتهمه بأنه من عبدة الأصنام والعياذ بالله . ثم إن غريكوس ليس صنما , لو كان حقا أعدم فإنه بطل من الأبطال الذين مأواهم الجنة, وغريكوس بطل مخلد فهو موجود ها هنا منذ زمن, لم يبرح منطقة الآثار .. بل هو دافع عنها .. ولهذا قطعوا رأسه.. نعم , من الممكن أن يكون غريكوس شهيدا .. فالشهداء أحياء .. هذا ما قرأه في القرآن .. و لو عرف أحد ما مكان رأس غريكوس وأعاده, فإنه بلا شك سينهض ويتحرك ويتكلم .. سيحكي نضاله الطويل ضد الوثنيين الرومان مع "مرقص" .. وسيتأمل كل قطعة حجر .. كل شجرة .. كل جبل , وكل واد .. كل ما من شأنه أن يذكره بقصة يشرع في سردها.. تمنى حمزة أن يكبر قليلا ليكون أول من يجد رأس غريكوس .. ويضعه في مكانه على كتفيه فتحدث المعجزة , ويتكلم غريكوس .. ها قد نهض غريكوس .. حرك يديه ورأسه , وانتصب ...وحدثت المعجزة .. مشى غريكوس إلى جوار حمزة بين أشجار المنطقة الأثرية يتحادثان.. يسأل حمزة عن كل ما قرأه في الكتب .. و يجيب غريكوس برحابة صدر ... و هو يجلس ها هنا قبل المسيح , و عندما بعث المسيح جاء أحد حوارييه , مرقص , الذي ولد أيضا في هذا المكان وسافر إلى فلسطين ورأى المسيح و سمع منه , و عاد إلى بلده ليبيا ليدون الإنجيل , و يدعو الناس إلى الله الواحد الأحد , الأمر الذي لم يعجب الرومان الوثنيين, و اليهود المقيمين معهم والذين رأوا في الديانة الجديدة خطرا عليهم , أخذ الرومان بتحريض من اليهود يقتلون أتباع "مرقص" مما اضطرهم إلى الهروب إلى الجبال , و أخذ " مرقص " يدعو الناس إلى دينه , و تزايد أتباعه وكونوا أوائل المسيحيين في ليبيا , والوادي الذي كان فيه "مرقص" لا يزال يعرف باسمه إلى اليوم .. والوادي الذي دون فيه الإنجيل يعرف هو الآخر بوادي الإنجيل . و حدث " غريكوس " "حمزة" عن ظهور الإسلام في هذه البقعة وكيف جاء الفاتحون الأوائل .. و كيف طرد الرومان منها ... إن ما كان ينتظره حدث , وهاهم أصدقاؤه يهرعون ليروا "غريكوس " بعد أن كانوا لا يهتمون به , و يرون أنه حجر أو صنم , و بعضهم حذره ذووه من الانصراف إلى هذه الأوثان لأنها من المحرمات المهلكات , وأن عليه أن يبتعد عنها .. هاهم يتقربون من " حمزة " ليكون وسيطهم لدى " غريكوس" , أما هو فإن أقصى ما يفعله هو أن يرفع رأسه فخرا , و يسير بينهم ليعرف " غريكوس " بأصدقائه واحدا واحدا , وكأن الأرض لا تسعه لفرحته الكبرى ... 3 "حمزة" هو من أطلق على " غريكوس" هذا الاسم , فهو يدرك أن "غريكوس" هذا ليبي , ليبي من أصول إغريقية , قدم أجداده إلى ليبيا واستوطنوا هذا المكان , الذي نصحهم به الأهالي لأن سماءه مثقوبة وخيراته كثيرة , لم يأت مستعمرا ولا مغتصبا , بل جاء ليعيش فاندمج وصار من أهل هذه الأرض, ولا يزال أحفاده إلى اليوم يحذون حذوه , ويأتون إلى هذه الأرض لأنها الأقرب إليهم قلبا وقالبا وسرعان ما يندمجون فيها وينصهرون. أوليس "حمزة" مثل " غريكوس " , من عائلة مسلمة قدمت من "كريت" منذ أمد بعيد و استوطنت ذات المكان .. مدرس التاريخ يقول أن التاريخ يعيد نفسه , وهو يصدق هذه المقولة . عندما أراد أن يختار اسما لغريكوس فكر في أن يكون الاسم ذا دلالة, أن ينبثق من المكان الذي أتى منه , هو أتى من اليونان فلابد أن يكون "إغريقيا" , و لكن الاسم "إغريقي" لم يرق له , ماذا سيختار ؟؟ حسن .. قدامي الإغريق كانوا يضيفون الواو والسين إلى أسمائهم .. إغريقيوس؟ لا...لا .. إنه أثقل من أن يستطيع النطق به .. ومع بعض التغيير البسيط أصبح الاسم "غريكوس" , والاسم جميل حقا و يناسبه كثيرا . لقد استغرق اختياره عدة أيام , وعليه الآن أن يسرع إلى أصدقائه ليخبرهم به , ويرى ردود أفعالهم , هم بلا شك سيعجبون بالاسم , ربما سيتظاهر بعضهم بأنهم لا يهتممون للأمر, لكنهم لن يستطيعوا أن يخفوا إعجابهم به بينهم و بين أنفسهم . انطلق يعدو على الطريق المشجر الجميل , حتى وصل إلى أصدقائه الذين كانوا يلعبون بالبطش ( البلي) , طفق يلهث وهو يحاول لفت أنظارهم إلى أهمية الأمر , ولكن يبدو أن أحدا منهم لم يهتم حتى بعد أن صرخ : _ وجدته .. وجدته ... غريكوس . أحد الصبية كان من هواة المطالعة والاستذكار , سأله : • ماذا وجدت يا أرشميدس ؟ _ اسمه أرخميدس وليس كما قلت . • أرشميدس أو غيره .. ماذا وجدت ؟ كنز علي بابا ؟ ضحك الصبية بأسرهم , في حين أخذ حمزة يحاول إضفاء أهمية على حديثه .. فقال لهم : "غريكوس". • من ؟ هكذا هتف أحدهم متسائلا , في حين قال الطالب المجتهد كثير الاستذكار: • ألا تذكرونه ؟ أنه شقيق أرشميدس .. عفوا أعني أرخميدس .. تعالت ضحكات الصبية .. _ لا ..لا .. إنه اسم التمثال الجالس قرب الحائط الصخري .. • ولكن كيف عرفت ذلك ؟ هم أن يقول أن هذا من وحي أفكاره .. إلا أن سخريتهم منهم دفعته إلى أن يتخذ موقف المهاجم الواثق من قدرته .. فما يريده تحقق .. لقد نجح في جلب انتباههم نحو شيء يعرفه .. وهم لا يعرفونه .. وبغض النظر عن كنه هذه المعرفة وكيفيتها فإن عليه فقط ألا يكذب .. فالكذب لا يجوز .. بيد أن أحدا ليس بمقدوره أن يجبره على قول الحقيقة .. • لا عليكم , ربما قرأ ذلك في كتاب من الكتب التي يزعم أن خاله يرسلها إليه من " بنغازي" .. وليكن , فلنفترض أنه عرف أسماء كل التماثيل الموجودة في المنطقة الأثرية , ماذا سيزيده ذلك ؟ - لا أوافقك الرأي يا صاح , لو عرفت أسماء بعض التماثيل , وبعض القصص عنها , لكان هذا مدعاة فخر لي , و قد يدفعني إلى العمل مرشدا سياحيا في إحدى الشركات , خاصة و أن السياحة باتت تحظى باهتمام متزايد , و ربما تصبح هذه المنطقة محط أنظار السواح بعد أن انصرفوا عنها أمدا طويلا .. أحس "حمزة " أن الحديث أخذ يتجه في الاتجاه الذي يفضله .. فقال: _ أنا أفضل دراسة التاريخ .. واللغات القديمة .. و أحب العمل في التنقيب بحثا عن الآثار .. ومن جديد فضل "حمزة" السكوت عن حكاية اسم التمثال .. و أحس أن الحديث يدور لمصلحته .. أيقن أن على هؤلاء أن يعوا حقيقة " غريكوس" وتاريخه المشرف , و عليهم أن يحترموه مثلما يحترمه هو .. وسمع أحد الصبية يقول : • أبي يقول أن السياحة حرام .. أنا لا أعرف معنى هذه الكلمة .. ولا أعلم لماذا يفضل النصارى المجيء إلينا .. أهو حج الكفار؟ نعم أن سياحتهم حج الكفار .. ألا ترى أنهم يعبدون الأصنام و يقولون أن حجهم أعني سياحتهم هذه لا تتم إلا بشرب الخمر؟ عبادة الأصنام ؟؟؟ هل تزال كل هذه التماثيل لمجرد الخوف من أن يعود الناس إلى عبادة الأصنام .. هذا يعني أن كل أحلامه ستروح بلا رجعة , فلا سياحة , ولا آثار ولا غيره , والأهم "غريكوس " سيختفي و سيتركه وحيدا... وكعادته دائما , مل " حمزة " حديث الصبية عن اللعب و واللهو , وفضل أن يتركهم وشأنهم , فغادر صامتا , و سرعان ما نسي الجميع أمر "غريكوس ", أما هو فكان سعيدا أن وجد لصديقه اسما , ومن يدري فلعله يوما سيلتقي به ويحادثه , وسيكون "غريكوس " أيضا سعيدا بهذا الاسم . في انتظار ذلك سار "حمزة " فوق البساط العشبي , وهو يفكر مليا في الأمر , متى يا غريكوس ؟ متى ؟ 4 امتزجت رائحة العشب والشجيرات الجبلية برائحة أمطار الخريف , الأمطار التي لها رائحة تفوق الخيال , والتي تأتي مرة كل عام وكأنها العيد , وعلى الرغم من أن المطر لم يتوقف هذا العام , فحتى في شهري الصيف الحارين أمطرت , إلا أن أمطار الخريف الأولى كانت دائما الضيف المرحب به , الضيف الخفيف الذي لا يكاد يجلس حتى ينصرف دونما استئذان . "حمزة" من أشد الناس حبا لهذا الضيف , فما أن أجهشت السماء, و اسودت قليلا حتى سارع عقب عودته من المدرسة ليركض فوق الأعشاب ما طاب له .. فإذا ازداد انهمار الأمطار ركض فوق الطريق الإسفلتي الذي يتوسط أشجار طويلة اصطفت على جانبيه , كأنما تحيي زوار البلدة وتميل في انحناءة كريمة لتظلهم بظلها الذي يخفف من حدة نزوات الطبيعة . وسعد "حمزة" أيما سعادة وهو يشتم رائحة الإسفلت المرتوي , فجعل يسير الهوينى كأنما يتلذذ بامتزاج الطريق برائحة الأعشاب المبتلة , لتنبعث تلك الرائحة الأسطورية التي تشترك كل نباتات الجبل في إحيائها, مثلما نشترك في إحياء العيد , حتى العصافير الصغيرة تأبى إلا أن يكون حضورها مسجلا بالصوت والصورة والرائحة أيضا , فتظل ترفرف فوق الأشجار وتشقشق , ويهرع الصبية إلى صيدها بالمقلاع ليفسدوا فرحتها بالعيد . وما أن يشتد انهمار المطر و يأخذ الجو في الميل نحو البرودة حتى تولي الأدبار , لتحل محلها رائحة الشتاء , رائحة البرودة القارصة, التي غالبا ليس لها رائحة : فالأنوف مسدودة , و الأغصان الجافة المحروقة يملأ دخانها البلدة الباحثة عن الدفء , والتي يلجأ فيها كل سكانها إلى بيوتهم طلبا له . ومادام الضيف الخفيف ها هنا , فلم لا يقضي معه حمزة أطيب الأوقات قبل أن يغادر مسرعا دونما استئذان , لن يعود حمزة إلى البيت قبل حلول الظلام , أما الآن فعليه أن يذهب ليطمئن على "غريكوس " والذي دون شك سيعذره لتأخره , فهو دائما موجود أما أمطار الخريف فلن تسامحه إن لم يكن في استقبالها وهي تأتي لتذهب , وسيرى ماذا فعل هو الآخر مع المطر أو بالأحرى ماذا فعل المطر به؟ولعله بهذا سيضرب عصفورين بحجر ويكون مع كليهما... صحيح أن متعة الركض على طرقات البلدة تحت أمطار الخريف لا تعدلها متعة , إلا أن متعة جلوسه قرب " غريكوس " وتحت المطر أيضا ليست بالشيء اليسير . كعادته دائما أمال بيده اليسرى جانبا من السياج المحيط بالمدينة الأثرية فانخفض حتى أدنى مستوى , في حين رفع رجله اليمنى ليضعها وراء السياج , وأبدل اليد اليسرى باليمنى , و هوب ... قفز فصار في الداخل على مقربة من "غريكوس" ... اشتد انهمار الأمطار , و أبرقت و أرعدت , آه .. ما أسرع حلول الشتاء .. هكذا خاطب نفسه وهو يحث السير باتجاه أقرب شجرة ليلجأ إليها , حتى إذا خفت حدة الأمطار استأنف سيره . وصل إلى غريكوس مع توقف المطر , و نظر إليه كأنما ينظر إليه لأول مرة .. حبات المطر اللامعة كانت تنعكس على جسد "غريكوس" الأبيض اللامع المصقول , و أحس أن ثمة أمرا ما قد استجد و أن " غريكوس " ليس كما كان ... خفق قلبه بقوة وهو يدور حول التمثال , وتأكد أن أمرا ما قد حصل ... فدار حول الجدار الصخري والعامود الرخامي .. ليعرف السبب .. من فعل بك هذا يا "غريكوس" ؟ هتف , وتطلع بعد ذلك إلى أعلى الجدار الصخري ... الآن عرف السبب .. ولكن , سيحدث ما هو أسوأ إن لم يتدارك الأمر. 5 تلك البلدة ..... كانت في يوم من الأيام أكثر مدن الشمال الإفريقي أهمية , بل أهم مدينة في القارة بأسرها . وكانت تلي سيدة العالم "أثينا" في الأهمية بين مدن العالم القديم بأكمله .. و قطنها في يوم من الأيام عدد من السكان لم تصل إليه مدينة ليبية حتى في العصر الحديث . مركزها يقبع على جزء من جبل ليس له نظير .. لم تكن على سفح الجبل , ولا على قمته , ولا أسفله , بل في بطنه تماما يظللها من كل جانب إلا جانب واحد , ترنو من على بعد إلى المتوسط .. إذ تتضح المياه الزرقاء الصافية , بعيد أرض سهلة خضراء تناثرت فيها الأشجار والشجيرات لتبعث في النفس أن ثمة يدا ليست كأيدينا هي التي رسمت بإتقان جليل لا يعدله إتقان . الشمس الحارقة لا تصل مطلقا إلى هذا المكان , فالجبل يحتويها و الأشجار السامقة تظللها .. أما مساء فكانت الشمس تواجهها بحنو بعد أن تكون حدتها خفت فتلاطفها وتمنحها دفئا وتعاندها رياح الشمال التي تبعث أنساما باردة , فتتعارك الرياح ولكن الصاري هو الرابح دائما في هذه البلدة الجميلة . ولكي تصل إلى هذه البلدة عليك أن تنزلق من طريق الجبل الرئيسي إلى مسارب و ممرات تسيجها الأشجار الفارعة , و المحال المغلقة في غالب الأمر .. و ستجد نفسك تنحني مع هذه المسارب , بشكل يجعلك ترى لدى كل انحناءة منظرا جميلا يبدو لك فجأة دون سابق إنذار , وربما وجدت مقهى أو اثنين يقدمان خدماتهما للسواح الأجانب الذين يندرون غالبا .. أو المواطنين الذين اعتادوا التنزه من حين لآخر في المنطقة.. ستلوح لك لدى إحدى الانحناءات المنطقة الأثرية , من عل , وهي نائمة في أحضان الجبل , في مشهد خلاب , سحر ألباب القاصي والداني , فترى دائما وافدا جديدا من كل مكان , منهم من لم يحظ بالزيارة من قبل , ومنهم من جاء للمرة الثانية محضرا معه أصدقاءه الجدد و كأنما ليؤكد لهم أنهم أخطأوا بعدم المجيء معه في المرة السابقة , ومنهم من دأب على المجيء حتى أصبح هذا المكان في رأيه خيرا من غيره , وأن ليس بالإمكان إلا ما كان . وعندما تلوح لك المدينة الأثرية , تكون قد اقتربت من البوابة الأولى التي يجلس أمامها بعض الصبية أو الشبان , ليبيعوا منتجاتهم المحلية الموسمية كالعسل والتفاح واللبن والرمان والتين الشوكي وما شابه , وعلى مصطبة عند الباب مباشرة يجلس موظفو الآثار مستظلين بأشجار الكرم , يصنعون الشاي أو يلعبون ( السيزة) , فإذا اقترب زائر نهض أحدهم على مضض ليتجه إلى غرفة التذاكر , التي تقع عند الباب مباشرة , ليستلم ويسلم ويعود إلى مكانه, فعند هذا الحد انتهت مهمته , وستستلمك التماثيل المصطفة على جانب الطريق وكأنما تحييك , ولك الخيار في مصافحتها من عدمها لأن جلها بدون أيد أو رؤوس , و لو لم يكن معك مرشد فالحال سيكون إلى حد ما غامضا , فلن ترى أكثر من حجارة وتماثيل , والمرشد سيوضح لك أن هذه الحجارة كانت في يوم من الأيام سوقا أو حمامات أو معابد أو مسارح , ولأن هذا المرشد لا وجود له فعليك أن تبحث بنفسك وتحاول قراءة اللوحات التي أتت عليها عوامل التعرية وأقامت عليها الطحالب مستعمراتها , أو أن تستمع بالطبيعة و بالهواء العليل النقي , دون أن تكمل مسيرة استكشاف الآثار التي أضحى التنقل بينها أمرا صعبا , وسيلفت نظرك وجود خطوط سكة صغيرة تذكرك بأن الزمن أتى حتى على بعض الآثار حديثة العهد , وليس فقط على تلك الضاربة في جذور التاريخ . لا يذكر "حمزة " أنه دخل مرة من باب المدينة الأثرية , ولا يذكر أنه اقترب منه خشية أن يراه أحدا فيظنه متطفلا , هو يأتي مباشرة إلى "غريكوس" , ولم يرق له أي من تماثيل المدخل , التي لا يمكن أن تكون مثله ... " غريكوس " الذي يجلس وحيدا , بإباء وشموخ , حتى مكانه كان يتيح له رؤية ما لا يراه الآخرون .. 6 دار حمزة حول الجدار الصخري , و تأمل " غريكوس" وكأنه يحاول أن يرى شيئا جديدا , لم يكن باديا من قبل . إن الأمر ليس كما كان آخر مرة , بل ثمة خطب استجد في هذا المكان , و قد استطاع أن يحدده ... على كتف "غريكوس" الأيمن أثر ضربة أزالت جزء دقيقا منها , والضربة لها سبب , والسبب واضح تماما , ثمة قطعة كبيرة من الجدار الصخري لا حظ تشققها منذ زمن ولم يتوقع أن تنهار في يوم من الأيام , وهي لم تنهار إلا أن جزء صغيرا جدا منها هو الذي سقط ... وعندما سقط أضر بغريكوس , وجرحه , فما الذي سيحدث لو سقطت القطعة المتشققة بأكملها , هذا يعني انتهاء "غريكوس " , سيصبح أشلاء ولن يعود له أثر . دار "حمزة " حول المكان , وعاين القطعة التي سقطت , إنه سيحتاج إلى أربعة صبية مثله ليعيدها إلى مكانها , وفكر في من سيقع عليه الاختيار من أقرانه ليساعده , بالطبع " قدورة " سيكون على رأسهم , فهو أكثرهم شحما ولحما , ويراهن أن بمقدوره لوحده زحزحة الحجر , أما إقناعه بالمجيء فلن يكلفه أكثر من (سندويتش) كبير به تونة وبيض وهريسة .. هذا كل الأمر .. وبالنسبة للآخرين فالأمر أيضا سهل , سيعطي كل ما معه من (بطش) لـ" رفيق" , أما "المهدي" الذي يعمل في ورشة مع والده مساء فإن حصالته كفيلة بحل المشكلة , فهو يعمل , وكل شيء بثمنه .. بقي واحد ... من؟ ؟ " حسين" ... سيقول له أن هناك مسابقة لحمل الحجر , سيأتي كعادته مغرورا لإثبات قدرته .. لن يتأخر , هو يعرفه .. والآن بمن يبدأ .. بالميكانيكي ؟ نعم " المهدي " أولا , والبقية بعده. وهرع من فوره إلى ورشة "سي سليمان " والد "المهدي" وطلب منه أن يترك المهدي يأتي معه لمساعدته في حمل أشياء بالبيت , وله ديناران كاملان , وطلب الأب رفع السعر إلى خمسة دنانير , ولم يكن معه سوى ثلاثة .. تنازل عنها من فوره وخرج من الورشة يصحبه " المهدي " .. • ما الشيء الذي تريدني أن أحمله معك ؟ - ليس الآن .. علينا الآن أن نسرع إلى "قدورة" .. أين أجده ؟ • لابد أن يكون في بيته . - لنسرع إليه . ولم يجدا صعوبة في إيجاد " قدورة " و إقناعه .. و كذلك "حسين" الذي قال له " حمزة" أن العملية كلها اختبار لمدى تحمل كل منهم , وقوته . و خرج الخمسة إلى المدينة الأثرية .. وقفزوا من المكان الذي يعرفه " حمزة" جيدا .. حتى إذا وصلوا إلى المكان أشار "حمزة" بيده إلى قطعة الحجر الكبيرة , قائلا : - هاهي ذي . هتف " حسين " قائلا : • ما هذا ؟ هل تسرقون الآثار ؟ تضايق "حمزة" و قال له : - لنعمل بسرعة .. ودعنا من هذا الكلام .. ما الذي سنفعله بصخرة كهذه حتى نسرقها . قال " قدورة" : • نحن فقط نريد إعادتها إلى مكانها : _ لنبدأ .. و أخذ الجميع ما عدا " حسين " يمسكون بالصخرة ويحركونها..ولما انضم إليهم "حسين" بدافع إظهار شطارته .. تحركت الصخرة وارتفعت .. وخلال دقائق كانت في مكانها .. مكانها الذي لو بقيت فيه هكذا لسقطت .. ولو سقطت هذه المرة لكان سقوطها أشد و أقوى من ذي قبل .. ولربما تبع سقوطها سقوط البقية الباقية من الحائط المتشقق .. قال لهم " حمزة" : - سأعود لوحدي و معي سطل به عجنة إسمنت .. سأعمل على تثبيت القطعة .. هذه العملية يسمونها ترميم .. • لا يهمنا ما ستفعله , نحن سنخرج الآن ... خرج الجميع بما فيهم حمزة .. رجع كل منهم إلى منزله .. أما حمزة الذي كان في منتهى السعادة لنجاح عمله , فقد سارع إلى جيرانه , حيث كانوا يقومون بصيانة المنزل قبل أن يداهمهم الشتاء ويصبحون في حال يرثى لها ... كما حدث معهم في الشتاء الماضي .. وطلب منهم بعض الإسمنت. سار يقود برويطة , وضع فيها سطل و ملعقة , و قد امتلأ السطل إلى فوهته بعجنة الإسمنت .. حتى وصل إلى السياج , دفع بالسطل من فتحة بالسياج تاركة البرويطة خارج السور , وسار يئن بالثقل , يرتاح تارة ويستأنف طورا حتى انتهى به المطاف إلى " غريكوس " .. وقف بفخر يتأمل إنجازه , كانت القطعة التي وضعوها لا تزال في مكانها , عليه الآن يصعد إلى أعلى الجدار ليملأه بالإسمنت .. ويسد كل الشقوق. 7 قبل طابور الصباح كان جميع الصبيان قد عرف باكتشـــاف جثة " حمزة " في المدينة الأثرية , وقد سقطت عليه الحجارة , وعلى تمثاله "غريكوس ", ولكنــهم لم يعرفوا أكثر من ذلك , فكــل كان يأتــي بأخبار تختلف عن الآخر , وكانت التفاصيل المملة تتغير لتصبح أحداثا مختلقة وتمط وتضيق حسب هوى الراوي. و في الطابور كان كل من " قدورة " و " المهدي " يرمقان بعضهما البعض بنظرات مستغربة ... أما " حسين " الذي أخبر الجميع بأنه كان مع " حمزة" داخل المنطقة الأثرية قبيل وفاته .. فإنه كان يقف إلى جوار "رفيق " الذي وبخه أيما توبيخ على مثل هذا الكلام .. و قال أنه من الممكن أن يزج بهم في السجن , ولذا عليهم أن يصمت , وأخبر الصبية أنهم لهوا قليلا قرب الآثار , ووجدوا "حمزة" في الداخل فتحدثوا معه قليلا ثم تركوه , ولا علم لأحد بما كان يفعله "حمزة" داخل المنطقة الأثرية . وحرص " رفيق " أن يقف قرب " حسين " حتى لا يثرثر , ويذهب بهم إلى الهاوية .. وعقب انتهاء مراسم الطابور الصباحي .. ساد الصبية الأربعة صمت مطبق , وكان " قدورة" أكثرهم صمتا .. وكأنه لا يصدق ما حدث.. وتوقفت الدراسة ذلك اليوم .. وجمع كل الطلاب في الساحة بعد انتهاء الحصة الدراسية الثالثة.. ووقف مدرس التاريخ أمام الطلبة .. وقيل أنه يعرف خبايا الموضوع أكثر من غيره , لأن شقيقه هو الذي اكتشف الجثة قبيل المغرب , و أطلع على سير تحقيق القضية, لهذا يريد أن يلقي كلمة بمناسبة الحدث الفظيع وتحدث ... ذكر مدرس التاريخ أولا تاريخ البلاد , و معالمه الأثرية , و كيفية الحفاظ عليها , وأنها مسؤولية الجميع ... أما أن يأتي أعداؤنا من الخارج , ويستغلون سذاجة أطفالنا , فيغرونهم بالمال أو بغيره .. لكي يسرقوا الآثار التي لا تقدر بمال .. ليبيعوها هم بالغالي و النفيس , فهذا أمر لا يمكن السكوت عنه . وقال لهم أن يد العدالة ستطال هؤلاء الذين غرروا بالصبي الصغير المسكين , وأنهم سواء كانوا محليين أو أجانب , سيأتي اليوم الذي سيسقطون فيه و ينفذ فيهم الجزاء الذي يستحقونه .. خطبة مجلجلة ... دوت في أسماع الطلاب الصغار المشدوهين .. فأمام الموت يذهل الكبير قبل الصغير .. وتصبح الكلمات من العيار الثقيل حتى و لو لم تكن ذات قيمة . وقال مدرس التاريخ : لقد كان "حمزة " يفك قطعا من الآثار و يملأ مكانها بالإسمنت مستغلا عدم شك أحد فيه لأنه صبي صغير .. و لا أحد يعرف أين ذهب بالقطع المسروقة , بل حتى أمين المنطقة الأثرية لم يستطع للآن أن يحدد عدد هذه القطع .. وسقط فجأة "قدورة" بجسده الضخم ... سقط وسط الصف وأخذ يجهش بالبكاء بصوت مرتفع وهو مرتم على الأرض ...