الخميس، 24 أبريل 2008

قمبـــــــــــارى

قمبـــــــــــارى حكاية هو بحار قديم من بنغازى..قضى مراحل حياته الاولى متنقلا بين السفن التجارية التى تجوب بحار العالم ومحيطاته..كان يسكن قريبا منا.. هادىء المظهر والملامح..يكاد صوته يهمس همسا اقرب الى الدبيب وقد لاتعرف ماذا يقول!! فتهز الناس رؤوسهم له علامة الفهم خوفا من الاحراج..رجل يمتلىء بالغموض والاسئلة..لاتعرف... من اين اتى..لكنه دافىء وودود..تشعر من خلال نظراته بالحنو والقلب الطيب. اسئلة الناس كانت تدور حول : من اين اتى محمد غيث او قمبارى ولقب بهذا اللقب لانه كان يسمى الناس كلها باسم قمبارى لم ينادى فى حياته اى من معارفه باسمه..كل الناس لديه هم قمبارى..لايعرف لاهو ولاالناس بقية اسمه واسرته وامه واخوته..لكنه يترك انطباعا جميلا لدى كل من يعرفه..وانا عندما عرفت الدنيا من حولى كان جزءا منها .. من الاجواء والاركان والمكان..ولم تكن تخطر ببالى اى اسئلة تدور فى اذهان الناس..وكان كلما رجع من سفرة بحرية..يدلف بابنا القديم ويمد لزوجة ابى ما احضره لى من حلويات بحر الشمال ولعب الاطفال..ثم يذهب وقد لانراه بعدها لعدة اشهر...قمبارى كان لازوجة ولااطفال ولامؤنس.. ولانعرف الا انه بحار واحيانا يهجر البحر ويعمل سائقا فى احدى السفارات وعادة ماتكون سفارة اسيوية وبالتحديد الصينية..كان يحب الصين واهل الصين..سافر اليهم عدة مرات كما يقول.. وحيدا على الدوام.. ومع ذلك كان سعيدا يملأ الدنيا بهدوءه ونكاته الظريفة التى تنساب همسا من شفتيه!!وعندما بلغت الخامسة عشر كان ياخذنى معه الى الكبترانية(1) يرمى صنارته من على حافة الشاطىء ثم يطلب منى الجلوس : - ليس هناك انسان اكثر صبرا من الصيادين ياقمبارى!! هكذا كان يقول لى دائما..ثم ينتظر فيض البحر..ويتمتم لنفسه بكلمات لااتبينها ..كان حالة خاصة من الغموض الامتناهى..غامض فى حركاته وسكناته وعاداته المتقلبه..ذات مرة وجدته يحلق ذقنه على شاطىء البحر..كانت المرآة الصغيرة فى يد والة الحلاقة فى يد اخرى ويجلس مقرفصا قبالة البحر..ومن لحظة لاخرى كان يسرح بنظره صوب الافق ..ثم يفيق من شروده ويعاود الحلاقة..ذات مرة وهو يحلق ويحدق فى المرآه جاءت عينه فى عينى....كنت وراءه مباشرة اراقبه زمجر بصوته هادىء وساخر: - ضاقت الدنيا بك فتبعتنى الى هنا..لايستطيع قمبارى ان يمارس حريته بعيدا عن الرقباء ابدا؟؟؟هيا قل ما الذى اتى بك يا قمبارى؟؟ - مامعنى كلمة قمبارى؟؟ - كلمة اختصر بها الاسماء علمها لى الطليانى الذى ربانى..لاتعول عليها..لكن انت ما قصتك تاتى من البركة الى هنا دائما..ماذا يفعل طفل مثلك فى هذا المكان الصامت؟؟ - هل تريدنى ان اذهب من هنا؟؟- - وهل احملك انا على راسى يا قمبارى..لاتذهب..فهذا البحر يتسع لامراض الجميع ويخبىء فى اعماقه اسرار كثيرة لو تعلمها لشاب راسك الصغير هذا..كم وصل عمرك الان.. - خمسة عشر!! - خمسة عشر؟؟مثلك الان ينتظر كوب اللبن كى ينام ... ذات يوم جاءنى : - هل تذهب الى الكبترانيه؟؟ كان اهلى قد توجسوا من تردد الرجل على لفارق السن واحضاره هذا الكم من الحلوى لى دون الاطفال الآخرين..لكنه قال لهم : - لاتذهبوا بعيدا احببت هذا الولد لانه يتيم الام..مثلى لكنى اكثر منه يتما لانى لااعرف ابى وامى.. ولانى يتيم اشيب !! قلت له : - نعم اذهب معك يا قمبارى ضحك : - عرفت السر..ايها الطفل اللئيم تذوقت طعم اختصار اسماء الناس كما تذوقته انا..ستعرفه عندما تكبر تكتشف ان الناس الذين حولك هم نسخة واحدة ولذلك لايستحقون اكثر من اسم مشترك ..و..يكون..قمبارى.. كان يومها يقف على حافة الكبترانية جندى بريطانى من معسكر ( الدوقادوستا 2) وكان يتأمل افق البحر فى دهشة تبين واضحة تماما على ملامحه..اغتاظ قمبارى: - هل ترى هذا الاحمر الذى يتمتع بمرأى بحر بنغازى..يملأ عيناه بهذا الجمال الذى لايملك فيه ياردة واحدة..اقول فى نفسى لو انى ارميه فى هذا اليم.. - سيغرق ياقمبارى.. - فليغرق ..كلب وقع على راسه حجر ومات..ولااحد يرانا هنا..الجو هادىء وشاعرى..سيكون عبرة لغيره من الانجليز فلا يتجولوا فى شوارعنا بعد اليوم.. ارعبتنى الفكرة..قمبارى الهادىء ليس هو الان الذى امامى.. رمى صنارته وهو ينظر الى الانجليزى نظرة حانقة..ومن ثم التهى بالبحر والسمك الذى كانت حصيلة صيده منه مجزيه: - اليوم سأرشو زوجة ابيك حتى لاتعاقبك..هه وفجأة ثقلت الصنارة..تحمس قمبارى..رفع الذراع بقوة حتى ابتعد السلك وطال ووقع راس الصنارة على قبعة الانجليزى ثم رجعت الصنارة بالقبعة الى اليم من فوق راس قمبارى الذى ذهل من سرعة ماحدث..صرخ الانجليزى : - ارابيك..ستيوبيت..ستيوبيت - انا ستيوبيت يا دونكى..هيا خذ هذه اللكمة.. وقع البريطانى على الارض ووثب قمبارى فوقه متحمسا وهو يحاول جره الى الماء..ويصرخ فى : - اجمع الحوت فى السلة بسرعة.. جمعت الحوت والصنارة وانا ارتعب من الخوف..وقمبارى مستمرا فى جر الجندى الى البحر..لكن يبدو ان مقاومة الجندى اعجزت قمبارى عن الاستمرار فى ما يريده له من موت محقق..لكمه لكمة قوية واختطف السلة منى والبسها لراس الجندى فتقاطر منها الماء يلحقه الحوت على راس الانجليزى ..ثم رفعنى فوق كتفيه واسرع بى مهرولا وانفاسه تتلاحق.. كانت السيارة تمر فوقف له السائق وركب مسرعا وانا مازلت فوقه..ساله السائق بفضول: - ولدك؟؟. - ....ولد امى!! مادخلك يا قمبارى؟؟ انطلق السائق وهو يحاول فك رموز جواب قمبارى غير الشافى لفضوله..وعند البركة وصلنا الى بر الامان ..انزلنى من فوقه وطلب منى العدو سريعا حتى منزلنا.. رويت لابى ما حدث ..ضحك كثيرا وقال لى : - قمبارى هذا بطل.. ليته قتل الكلب؟؟!! لم افهم معنى ما قاله ابى بالدقه وما يعنيه تماما بتمنيه قتل الجندى... وربما لم اعرف ما يعنيه لسنوات اخرى...وبعد تلك الحادثة لم اعد اجد قمبارى لافى الشارع ولا فى الكبترانيه ومرت سنوات قبل ان اراه مرة اخرى..ذات يوم وجدته فجأة فى احد شوارع بنغازى قال لى: - كبرت يا قمبارى..وصرت شابا؟؟ - اين كنت طوال هذه السنين؟؟ - بعد حادثة الكبترانيه ابتعدت الى البيضاء عملت لدى السفير الصينى ولم اعد الا هذا العام بعد ان طـُرد الانجليز الكلاب..اسكن الان فى توريللى وراء المدرسة..مازلت عازبا تعال واسال عن قمبارى..اى طفل سيدلك على منزلى القديم هناك.. ترددت عليه عدة مرات ولعدة شهور بعد هذا اللقاء وذات يوم لم اجده انبأنى الجيران بانه احس بوعكة مفاجئة ثم اغمى عليه فحملوه الى مستشفى الجمهورية..وعندما ذهبت اليه وجدته ممددا على السرير وقد افاق من غيبوبته وعندما رآنى قال : - سيارتى وضعت تحت شجرة فى حديقة المستشفى اذهب وتفقدها جيدا ..ربما سرقوا منها مصباحا او اى شىء..دولاب..او حتى زجاج..يوجد هنا كم من القمباريين!! وجدت السيارة كما هى فعدت وابلغته لكى يطمئن عليها..واصبحت كل يومين ازوره واتفقد السيارة الى ان جاء يوم لم اجد السيارة فى مكانها ولم يكن قمبارى فى سريره...سألت عنه..قيل انه قد مات بالامس ودفن ظهر اليوم وذهب فى جنازته كل العاملين فى المستشفى..اما السيارة فقد جاء احد الاشخاص وقال انه قريبه فاستلمها وذهب بها.. رحل قمبارى بغموضه واسراره ..وكذلك سر الشخص الذى جاء واخذ سيارته...هل كان احد اقرباءه بالفعل ولم يتذكره الا فى لحظاته الاخيرة؟؟؟ لم ابحث عن اجوبه فى حياة رجل عاش غامضا وبدون اسرة..فمن عساه ان يجيبنى وهو راقد رقدته الاخيرة..ــــــــــــــــــــــــــ هوامش: 1-الكبترانيه : بروز اسمنتى صغير على شاطىء بنغازى بالقرب من الميناء 2-الدوقادوستا: معسكر الجيش البريطانى فى البركة ببنغازى ابان وجود القواعد الانجليزية فى ليبيا..