الخميس، 2 يوليو 2009

الطاعـــــــون!!...حكايــــــــــــة

اللعب والعرائس..والأحلام الطفولية البريئة ، هي أجمل لحظات العمر....
شارعنا الصغير في البركة عبارة عن زقاق كانوا يسمونه ( زقاق البوري )..
زقاق تكبر فيه الحكايات وتتضخم وتعلو وتكون لها فروع وأصول وحكاية في
مليون حكاية متداخلة .. بعض الحكايات تتجاوز المألوف إلى الخيال ..وبعض
الألعاب كانت كبيرة إلى حد الغموض!!..
خديجه ابنة الزقاق وعشيرته هي وأمها ..كنا نعتبرها المتحضرة المتجاوزة
الوحيدة في الزقاق..بعض الكبار يعتبرونها أسوأ!! وفى احد الأيام جاءت إلي
المنزل ..كان معها ( البوليس) ووجهها تكسوه الكدمات المتورمة..والبوليس
كان مسئولا عن الأخلاق!!.. وخديجة الفتاة الوحيدة في الشارع التي كانت
تخرج سافرة الوجه ..أما بقية الفتيات فيغطين وجوههن بالخمار الأسود..الألسنة
اللعينة لاتلوك إلا اسمها ..رغم أنى اعرف إحداهن كانت تفعل تحت الخمار
الأعاجيب..كنت طفلا لكنها كانت تضمني إلى صدرها في نهم غريب لم تدركه
براءتي في ذلك الزمن..خديجة ذات وجه مدور وراس جميل وشامخ ..وكان أبى
الوحيد في ألحى الذي لا يخجل من السلام عليها وعلى أمها وبعض المرات كان
يعطيها قرشين لكي تصحبني معها إلى المدرسة خوفا علي من الأشقياء..وأبى
رجل ورع متعلم وكان يحذره الناس من خديجة وأمها لكنه كان يرد على
ملاحظاتهم بإيماءة من رأسه تدل على عدم الاكتراث.. فلا يرد على
ملاحظاتهم..كان يقول :
- هؤلاء كل منهم يحمل خطيئته لكنه يتحدث عن الآخرين وكأنه راهب متجلي!!
لم افهم ما يقوله أبى لكن سلطة الأبوة تجعلني استقبل قولــــــه من المسلمات
وان لم افهمه..
وخديجة بالرغم من صفاقة الالسنة حولها، تعلو قسمات وجهها الأنفة ..والحاج
مصطفى الاعور صاحب الدكان كان اكثر الناس حدة فى انتقادها ، فكلما رآها
بصق على الأرض وتمتم بكلمات قبيحة اذكر منها :
- أللعنة عليك ..آه يا بنت الكلبة الصارفة (1)....!!!؟؟؟
خديجة يتيمة الأب..لا نذكر والدها بالتحديد وربما كانت تسكن في حي آخر وبعد
ان مات أبيها انتقلت هي ووالدتها إلى زقاق البوري..أو ربما قد مات قبل ان
نعرف الحياة..هي وحيدة أمها وتعمل لدى محل للخياطة ، وكان أبى يخيط بعض
قمصانه عندها فقد كانت تملك آلة خياطة قديمة وكنا عند سكون الليل نسمع
قرقعتها...كانت آلة يدوية غريبة كلما عملت اهتزت بأكملها وكنت أتصور عدة
مرات أنها سوف تتحول إلى شظايا!! وكونها خياطة ربما كان هذا هو سبب
أناقتها ، أبى كان يأتي إلى أسرة خديجة نهارا وأمام الناس..بعض النسوة يخيطن
عندها سرا بدون علم أزواجهن بإ ستثناء زوجة أبى ( أمي )..وخديجه كانت
أيضا مثار إعجاب الفتيات في الزقاق لكنه إعجاب مكبوت!! ..فى احدى المرات
ذكرنا خديجة بسوء فنهرنا أبى ..كانت المرة الأولى التي يسمع فيها الأطفال
رجلا يدافع عن خديجه والشمس ساطعة!! فقد تعودنا على تحريض ( عقلاء!)
الشارع لنا لإهانتها والتعريض بها والتصفيق سخرية منها وذلك مقابل عطف
الحاج مصطفى بالحلوى الرديئة التى تنبعث منها روائح الفئران , كان أبى يقول
له :
- أنت تعطى الأطفال الطاعون يا مصطفى مقابل هذا الفجر الذي تحرضهم به.
ولسبب ما كان مصطفى يخشى ا بي فلا يرد عليه بل ينكمش في دكانه بينما أبى
ينهره، ثم يذهب إلى عمله ..ومصطفى مقابل طاعونه يشعر بالغبطة لهذه الزفة
التي نجريها من آن لآخر للمسكينة خديجة..والحلوى كانت كافية لإغرائنا بفعل
المزيد..لكن خديجه لم تكن تعرنا اى اهتمام ، كانت تنظر إلينا نظرة لم نفهم
معناها ..وتنقل أنظارها بيننا وبين مصطفى الأعور ثم تذهب ، وفى ذلك اليوم
قال لي أبى:
- خديجة فتاة كادحة وتثق في نفسها وتحترم ذاتها ..وكم من فتاة تخفى وراء
الخمار ( مرا ودهاء ) فلا تفعلوا بها ما تفعلونه وسأعطيكم أنا الحلوى النظيفة
وبدون طاعون.
بالفعل كان صادقا في وعده ومنذ ذلك اليوم لم نتعرض لخديجة ولم نعد نهتم
بها .. استغرب مصطفى هذا الموقف المفاجىء :
- أيها الملاعين منذ أيام لم اسمع أصواتكم..هل تريدون مزيدا من الحلوى؟؟
- لقد قال لنا أبى أنها مضرة وتسبب الطاعون.
* عندئذ امسك بيدى وهزنى بقوه وقال بحنق :
- آه منك ومن (بوك) الداهية!!؟؟
· يوم ان جاءت سيارة البوليس مع خديجة وكانت راكبة من الخلف بينما أبى
يجلس إلى جِوار السائق..عرفنا الحكاية...احدهم حاول الاعتداء على خديجه
وأمها غائبة في المستشفى ..ولم يظفر منها بشيء..وعرفنا ان العاشق الولهان
لم يكن إلا الحاج مصطفى الذي ولى هاربا تاركا سبحته الطويلة في فناء المنزل
القديم في آخر الزقاق..حامى شرف الزقاق الغيور عليه تسلل ليلا إلى منزل
خديجه ..ومن يومها لم يفتح دكانه الذي لم نراه مقفلا منذ ان عرفنا الشارع
ولعبنا فيه..حيث كان يفتحه في الفجر ولا يقفله إلا عندما يخف دبيب الأرجل
أواخر الليل ...
· أما خديجة فقد انتقلت مع أمها إلى شارع آخر ..وبعد سنوات وبعد ان نسينا
خديجة وأخبارها كان أبى ذات يوم جالسا امام دكان احد أصدقائه وإذا بفتاة تمر
من امامهما سافرة الوجه شبه عارية تتمايل فى خطواتها فقال الرجل لأبى:
- هل تعرف هذه البنت؟
- ..........................!!
- إنها ابنة الحاج مصطفى الأعور .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش: (1) الكلبة الصارفة باللهجة الليبية..هي الضائعة ألشبقه التي تبحث عن اى ذكر دون تمييز..

هناك 4 تعليقات:

Unknown يقول...

العزيز الاستاذ / محمد السنوسي الغزالي
تحية ملؤها الود

شاكرٌ مرورك الجميل ، فهذا ليس غريباً على رجل تمرس في الابداع والثقافة ، لم انتبه كذلك لوجود مدونتك إلا بعد وجود تعليقك

اضفت المدونة في المفضلة لدي لمتابعة ابداعاتك
لك مني كل تقدير

عبدالباسط أبوبكر محمد

مدائن الثقافة يقول...

الشاعر الجميل عبد الباسط ابوبكر..شكرا لك ولقلبك الجميل

غير معرف يقول...

حكابات الطفولة لاتمحى من الذاكرة ، تظل تعيش فيها وتستعيد نفسها مرات ومرات حتى تظهر سردا جميلا
خديجة شخصيةمدهشة ولا تنسى
سيد الوكيل

مدائن الثقافة يقول...

سيد الوكيل ..الروائي والناقد العربي المصري..اي شرف يحوطني في هذا الصباح الجميل..لااستطيع وصفه..شكرا لقلبك الجميل سيدي.